فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن الزهري قال: هي بسم الله الرحمن الرحيم، وضم بعضهم إلى هذا محمد رسول الله، والمراد بإلزامهم إياها اختيارها لهم دون من عدل عنها إلى باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله، وقيل: هي الثبات والوفاء بالعهد، ونسبه الخفاجي إلى الحسن، وإلزامهم إياه أمرهم به، وإطلاق الكلمة على الثبات على العهد والوفاء به قيل: لما أن كلا يتوصل به إلى الغرض وهو نظير ما قيل في إطلاق الكلمة على عيسى عليه السلام من أن ذلك لأن كلًا منهما يهتدى به، وجعلت الإضافة على كونها بمعنى الثبات من باب إضافة السبب إلى المسبب فهي إضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن تكون اختصاصية حقيقية بتقدير مضاف أي كلمة أهل التقوى، وأريد بالعهد على ما يقتضيه ظاهر سبب النزول عهد الصلح الذي وقع بينه صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة؛ وقيل: ما يعم ذلك وسائر عهودهم معه عز وجل.
وأنت تعلم أن الوجه المذكور في نفسه غير ظاهر، ومثله ما قيل: المراد بالكلمة قولهم في الأصلاب: بلى مقرين بوحدانيته جل شأنه، وبالإلزام الأمر بالثبات والوفاء بها، وقيل: هي قول المؤمنين سمعًا وطاعة حين يؤمرون أو ينهون، والظاهر عليه كون الضمير للمؤمنين، وأرجح الأقوال في هذه الكلمة ما روي مرفوعًا وذهب إليه الجم الغفير، ولعل ما ذكر في الأخبار السابقة من باب الاكتفاء، والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
{التقوى وَكَانُواْ} عطف على ما تقدم أو حال من المنصوب في {ألزمهم} بتقدير قد أو بدونه والظاهر في الضمير عوده كسابقه كما اقتضاه كلام عمر رضي الله تعالى عنه على الرسول والمؤمنين، واستظهر بعضهم عوده على المؤمنين وكأنه اعتبر الأول عائدًا عليهم أيضًا وهو مما لا بأس فيه، ولعله اعتبر الأقربية، فالمعنى وكان المؤمنون في علم الله تعالى {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} أي بكلمة التقوى، وأفعل لزيادة الحقية في نفسها أي متصفين بمزيد استحقاق لها أو على ما هو المشهور فيه والمفضل عليه محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل: من اليهود والنصارى، وقيل من جميع الأمم لأنهم خير أمة أخرجت للناس.
وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد منهم أن يقول: لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك، وكان قائلها يمد بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركًا بذكر الله تعالى، وقد جعل الله عز وجل لهذه الأمة أن يقولوها متى شاءوا وهو قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا وكانوا أحق بها، وهذا مما لم يثبت، وجوز الإمام كون التفضيل بالنسبة إلى غير كلمة التقوى أي أحق بها من كلمة غير كلمة تقوى وقال: وهذا كما تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة، وقولك إذا سئل شخص عن زيد بالطب أعلم أو بالفقه: زيد أعلم بالفقه أي من الطب، وفيه غفلة لا تخفى {وَأَهْلُهَا} أي المستأهل لها وهو أبلغ من الأحق حتى قيل بينه وبين الأحق كما بين الأحق والحق، وقيل: إن أحقيتهم بها من الكفار تفهم رجحانهم رجحانًا ما عليهم ولا تثبت الأهلية كما إذا اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له لكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فيقال للأقرب إليه إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، ولدفع توهم مثل هذا فيما نحن فيه قال سبحانه: {وَأَهْلُهَا} وقيل: أريد أنهم أحق بها في الدنيا وأهلها بالثواب في الآخرة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير والأصل وكانوا أهلها وأحق بها، وكذلك هي في مصحف الحرث بن سويد صاحب ابن مسعود وهو الذي دفن مصحفه لمخالفته الإمام أيام الحجاج وكان من كبار تابعي الكوفة وثقاتهم، وقيل: ضمير {كَانُواْ} عائد على كفار مكة أي وكان أولئك الكفار الذين جعلوا في قلوبهم الحمية أحق بكلمة التقوى لأنهم أهل حرم الله تعالى ومنهم رسوله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم إنذارهم لولا ما سلبوا من التوفيق، وفيه ما فيه سواء رجع ضمير {ألزمهم} إلى كفار مكة أيضًا أم لا، وأظن في قائله نزغة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه، وقيل: ضمير {وَلَوْ كَانُواْ} للمؤمنين إلا أن ضميري {بِهَا وَأَهْلَهَا} للسكينة، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع، وقيل: هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها، وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] وكذا محل الهدى في قوله سبحانه: {والهدى مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وفيه ما لا يخفى {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا} فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز وجل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلًا لجميع ما تقدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}.
عطف على جملة {وكفّ أيدي الناس عنكم} [الفتح: 20] وهذا كفّ غير الكف المراد من قوله: {وكفَّ أيدي الناس عنكم}.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص، أي القصر، أي لم يكفّهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدّر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال، فكفَّ أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم ويطلقهم.
وتقدم الكلام على معنى {كف} في قوله آنفًا {وكف أيديَ الناس عنكم}.
والمعنى: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم، وهي منّة ثانية مثل المنة المذكورة في قوله: {وكف أيدي الناس عنكم}.
وهذه الآية أشارت إلى كف عن القتال يسّره الله رفقًا بالمسلمين وإبقاء على قوتهم في وقت حاجتهم إلى ذلك بعد وقعة بدر ووقعة أحد، واتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية.
وهذا يشير إلى ما روي من طرق مختلفة وبعضها في سنن الترمذي وقال: هو حديث صحيح، وفي بعضها زيَادة على بعض أن جمعًا من المشركين يُقدر بستة أو باثني عشر أو بثلاثين أو سبعين أو ثمانين مسلحين نزلوا إلى الحديبية يريدون أن يأخذوا المسلمين على غرة ففطن لهم المسلمون فأخذوهم دون حرب النبي بإطلاقهم وكان ذلك أيام كان السفراء يمشون بين النبي وبين أهل مكة ولعل النبي أطلقهم تجنبًا لما يعكر صفو الصلح.
وضمائر الغيبة راجعة للذين كفروا في قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا} [الفتح: 22] ووجه عوده إليه مع أن الذين كف الله أيديهم فريق غير الفريق الذي في قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا} هو أن عرف كلام العرب جار على أن ما يصدر من بعض القوم ينسب إلى القوم بدون تمييز كما تقدم في سورة البقرة (63) في قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم}.
وقوله: {ببطن مكة} ظاهر كلام الأساس: أن حقيقة البطن جوف الإنسان والحيوان وأن استعماله في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط مجاز، قال الراغب: ويقال للجهة السفلى بطن، وللعليا ظهر.
ويقال: بطن الوادي لوسطه.
والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به وسط المكان كما في قول كعب بن زهير:
في فتية من قريش قال قائلهم ** ببطن مكةَ لما أسلموا زُولوا

أي في وسط البلد الحرام فإن قائل: زولوا، هو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب، غير أن محمل ذلك في هذه الآية غير بيّن لأنه لا يعرف وقوع اختلاط بين المسلمين والمشركين في وسط مكة يفضي إلى القتال حتى يُمتنّ عليهم بكف أيدي بعضهم عن بعض وكل ما وقع مما قد يفضي إلى القتال فإنما وقع في الحديبيّة.
فجمهور المفسّرين حَملوا بطن مكة في الآية على الحديبيّة من إطلاق البطن على أسفل المكان، والحديبيّة قريبة من مكة وهي من الحِل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب وتعرف اليوم باسم الشميسي، وجعلوا الآية تشير إلى القصة المذكورة في (جامع الترمذي) وغيره بروايات مختلفة وهي ما قدمناه آنفًا.
ومنهم من زاد في تلك القصّة: أن جيش المسلمين اتبعوا العدوّ إلى أن دخلوا بيوت مكة وقتلوا منهم وأسروا فيكون بطن مكة محمولًا على مشهور استعماله، وهذا خبر مضطرب ومناف لظاهر قوله: {كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم}.
ومنهم من أبعد المحمل فجعل الآية نازلة في فتح مكة وهذا لا يناسب سياق السورة ويخالف كلام السلف من المفسّرين وهم أعلم بالمقصود، هذا كلّه بناء على أن الباء في قوله: {ببطن مكة} متعلقة بفعل {كف}، أي كان الكف في بطن مكة.
ويجوز عندي أن يكون {ببطن مكة} ظرفًا مستقرا هو حال من ضميري {عنكم} و{عنهم} وهو حال مقدرة، أي لو كنتم ببطن مكة، أي لو لم يقع الصلح فدخلتم محاربين كما رغب المسلمون الذين كرهوا الصلح كما تقدم فيكون إطلاق {بطن مكة} جاريًا على الاستعمال الشائع، أي في وسط مدينة مكة.
ولهذا أوثرت مادة الظفر في قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} دون أن يقال: من بعد أن نصركم عليهم، لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل.
ومناسبة تعريف ذلك المكان بهذه الإضافة الإشارة إلى أن جمع المشركين نزلوا من أرض الحرم المكي إذ نزلوا من جبل التنعيم وهو من الحرم وكانوا أنصارًا لأهل مكة.
ويتعلّق قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} بفعل {كف} باعتبار تعديته إلى المعطوف على مفعوله، أعني: {وأيديكم عنهم} لأنه هو الكف الذي حصل بعد ظفر المسلمين بفئة المشركين عل حسب تلك الرواية والقرينة ظاهرة من قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم}.
وهذا إشارة إلى أن كف أيدي بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذا مَنُّوا على العدوّ بعد التمكن منه.
فعُدي {أظفركم} بـ (على) لتضمينه معنى أيَّدَكُم وإلا فحقه أن يعدى بالباء.
وجملة {وكان اللَّه بما تعملون بصيرًا} تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى العليم بالمرئيّات، أي عليمًا بعملكم حين أحطتم بهم وسُقتموهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تظنون أنكم قاتلوهم أو آسروهم.
وقرأ الجمهور {تعملون} بتاء الخطاب.
وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة، أي عليمًا بما يعملون من انحدارهم على غرة منكم طامعين أن يتمكنوا من أن يغلبوكم وفي كلتا القراءتين اكتفاء، أي كان الله بما تعملون ويعملون بصيرا، أو بما يعملون وتعملون بصيرا، لأن قوله: {كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} يفيد عملًا لكل فريق، أي علم نواياكم فكفها لحكمة استبقاء قوتكم وحسن سمعتكم بين قبائل العرب وأن لا يجد المشركون ذريعة إلى التظلم منكم بالباطل.
{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}.
استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة وخير الدنيا عاجله وآجله، وضمان النصر لهم في قتال المشركين، ومَا هَيَّأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي صد المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدْي عن أن يبلغ به إلى أهله، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون، وهم يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظّميه، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية.
وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} [الفتح: 22] الآية.
والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي.
والمقصود من الصلة هو جملة {صدوكم عن المسجد الحرام} وذكر {الذين كفروا} إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر ولهذا الإدماج نكتة أيضًا، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة {هم الذين كفروا} قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله.
والهديُ: ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى: {والهَدْي والقلائد} [المائدة: 97] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع.
والمعكوفُ: اسم مفعول عَكَفه، إذ ألزمَه المكث في مكان، يقال: عكفه فعكَف فيستعمل قاصرًا ومتعديًا عن ابن سِيده وغيره كما يقال: رجَعه فرجَع وجَبره فجَبر.
وقال أبو علي الفارسي: لا أعرف عكف متعديًا، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى: {معكوفًا} على أنها لتضمين عكَف معنى حبس.
وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطّر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة.
ومعنى صدهم الهدي: أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى.
وليس المراد: أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لِتُنحر بها.
وقوله: {أن يبلغ محله} أن يكون بدل اشتمال من {الهدي} ويجوز أن يكون معمولًا لِحرف جر محذوف وهو (عن)، أي عن أن يبلغ محله.
والمحِلّ بكسر الحاء: محلّ الحِل مشتق من فعل حَلّ ضد حرُم، أي المكان الذي يحِلّ فيه نحر الهدي، وهو الذي لا يُجزىءُ غيره، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر، ولذلك لما أُحصروا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك.
ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتوخّي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصرَ.
{مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله في رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا}.
أتبع النعي على المشركين سُوءَ فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وَعْدَهُ المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح، فبيّن أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفًا من قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليًا ولا نصيرًا} [الفتح: 22] أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لمّا صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يَعلمونهم، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم، فالجملة معطوفة على جملة {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} أو على جملة {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} [الفتح: 24] الخ.